جاكوب كوهين يكتب: هل فشل المشروع الصهيوني؟

28

نشأت الصهيونية السياسية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، عندما أشعلت الأيديولوجيات القومية النار في جميع شعوب أوروبا. عززت بعض الدول المشكلة بالرغبة في تقوية قوميتها من خلال التوسع في قارات أخرى.

وسعى آخرون إلى توحيد سياسي وراء لغة وراية وملك وأيديولوجية. في هذا الجو من القومية المتفاقمة قرر المؤرخون اليهود الأوروبيون إعادة كتابة تاريخ الشعب اليهودي لإعطائه طابعا وطنيا واستمرارا تاريخيا ومعالم مشتركة.

وبعبارة أخرى، اختراع القومية اليهودية من فراغ. لقد استقر هذا الشعب بعد خروجه من مصر في ما يسمى أرض الميعاد، وعاش مملكتي داود وسليمان المجيدتين، ثم عاش تجربة المنفى والتيه لما يقرب من ألفي عام، بينما ظل مخلصا لمعتقداته ومتحدا على الرغم من التشتت، كان عنده الأمل الوحيد والوحيد هو استعادة الأمة اليهودية. لذلك كان لهذه القومية الجديدة أساس متماسك يمكن بناء عليه كتابة صفحة بطولية جديدة فيما يتعلق بالماضي وإدراجها تماما في روح العصر.

إن اليهود المتناثرين في العالم ظلوا متحدين بالتقاليد وخاصة برغبتهم في إعادة بناء الدولة التاريخية ولذلك سارعوا إلى الوطن القديم وهم يحلمون يإغلاققوسين عرضييْن من ألفي عام. هذه الحركة، التي كانت لها شرعية تاريخية على هذه الأرض، كان عليها أن تكون قادرة على العودة دون صعوبة لأن الشعوب التي عاشت هناك لم يكن لديها أي ارتباط حقيقي بالأرض بل هناك من زعم أنهم لا يحبون أرضهم وعلى أي حال يهملونها.

من المهم التأكيد على أن الصهيونية السياسية أوروبية في الأساس، وبشكل أدق من أوروبا الشرقية التي عرفت عدة اضطرابات تاريخية وثورات وهجرات وتحولات اجتماعية وسياسية. لم يكن من الممكن أن تولد الصهيونية في مكان آخر، وحتى لو كانت الأيديولوجية قادرة على إقناع طبقات معينة، فإنها لم تكن لتجد العنصر البشري الضروري والمناضل المستعد لتجربة المغامرة وإطلاق الأسس الملموسة لأمة يهودية مستقبلية. كل هذا الغليان السياسي والفكري كان سيبقى نظريا فقط.

أنا ولدت في المغرب في الأربعينيات من القرن العشرين في حي يهودي غارق في التقاليد التوراتية، وليس منفتحا جدا على التعليم والسياسة والتاريخ. كان الجميع تقريبا متدينين ويحلمون بظهور المسيح المخلص. ولكنه مسيح من نسل داود الذي سيأتي بفضل من الله لتخفيف آلام شعبه. لو قيل لهؤلاء اليهود المغاربة في ذلك الوقت، أو حتى في بلدان عربية أخرى، أن يلتزموا بالذهاب للقتال وإعادة بناء الأمة اليهودية، لكانوا صرخوا ووصفوا من ينادي بذلك ب “المتمرد أو المرتد”. هكذا تعاملت السلطات الدينية في الحي اليهودي لدينا، وممثلوها هم القيمون الحقيقيون على السلطة الروحية، مع المراسيل الصهاينة الذين تجرأوا على فتح مكتب هناك كان بعمل خلال يوم السبت وهو يوم الاستراحة عند اليهود.

وتجدر الإشارة أيضا إلى أن يهود المجال الغربي لم يتعاملوا مع الأيديولوجية الصهيونية سوى من منطلق مصلحة محدودة مشوبة بعدم التصديق. كل شيء كان يدور حول بضع عشرات الآلاف من المناضلين اليهود أو الاشتراكيين أو الشيوعيين أو النقابيين، الذين سعوا إلى الخلاص الثوري للشعب اليهودي، أو حتى ظهور يهودي جديد متخلص من معتقدات الشتات والعيوب المرتبطة به ومنها ممارسة التجارة أو حتى الربا، بدون أدنى صلة بالأرض ورفض العمل اليدوي والضعف الجسدي الذي يقترب من الجبن ، وميل للقراءات والدراسات الشاقة العبثية.

هؤلاء “الرواد”، كما يسمون أنفسهم انتقلوا من النظرية إلى التطبيق، لم يتبنوا أحد الطريقين المفتوحين أمام المناضلين اليهود في ذلك الوقت: الاندماج في القوى الثورية الوطنية بشكل رئيسي في روسيا، أو البحث عن الخلاص الثوري في أوروبا أو حتى أمريكا. كان من الضروري بالنسبة لهم أن تكون ثورتهم شاملة. كانت هذه هي نظرية الهرم المقلوب الشهيرة لصاحبها دوف بير بوروخوف المولود في الإمبراطورية الروسية القيصرية في عام 1881. كان قد وضع نظرية للقومية اليهودية على شكل خليط من الصراع الطبقي والمادية الجدلية.

بالنسبة له يتوزع يهود أوروبا اجتماعيا وفقا لهرم مقلوب من الطبقات. في جميع المجتمعات، تكون القاعدة الأوسع هي طبقة الفلاحين، ثم تأتي طبقة العمال البروليتاريا، ثم طبقة الحرفيين، ثم طبقة التجار وموظفي الخدمة المدنية وأخيرا من يشتغلون بالمواضيع العقلية ، أما بين يهود الشتات، تتكون قاعدة الهرم من هذه الطبقة الأخيرة.

إنه مجتمع غير سليم ومحكوم عليه بأن يكون أقلية، تحت رحمة السلطات المحلية. يجب أن تهدف الثورة اليهودية، الوطنية والاجتماعية والسياسية إلى بناء هذا المجتمع الجديد. ومن هنا تأتي أهمية أن يصبح منهم المزارعون والبناؤون والجنود. سنوضح هذه الظاهرة بحكاية صغيرة: إنه رجل متقاعد إسرائيلي يسير مع حفيده في تل أبيب وأمام الميناء يوجد جسر ومصنع وعمارة فقال الجد لحفيده: “لقد شاركت في شبابي في بناء كل ما تراه هنا “، ثم سأله الحفيد: “قل يا جدي، عندما كنت شابا هل كنت عربيا؟

كان من الممكن أن يظل حلم المجتمع اليهودي الحديث القائم على المبادئ الماركسية يوتوبيا جميلة، مثل العديد من المجتمعات الأخرى.

لأن السؤال الأساسي الذي أثير آنذاك هو ما هو الإقليم الذي يتمتع بالحكم الذاتي والذي يصلح لوضع كل هذه المبادئ الجميلة موضع التنفيذ. لقد عاش معظم هؤلاء الثوار مشتتين في المراكز الحضرية تحت حكم القيصر. لم يكونوا مجتمعين في تنظيم واحد ومثل جميع أنصار الماركسية، يمكنهم الدفاع عن رؤى مختلفة.

وتتعلق أهم الخلافات، بصرف النظر عن تلك المرتبطة بالإقليم الجغرافي ، بطبيعة الدولة المستقبلية. أما المطالبة بدولة قومية يهودية فقد استجاب لها التيار الثقافي الذي يمثله آحاد هعام. وفقا لهذا المفكر القومي وزعيم عشاق صهيون وأحد آباء الأدب العبري الحديث ، فإن تحرير الشعب اليهودي يتطلب إنشاء مركز روحي في أرض إسرائيل. ومن هنا جاءت معارضته للصهيونية السياسية لهرتزل. وكان العالم الفزيائي أينشتاين والمفكرة حنا أرندت قد أعربا عن تحفظات مماثلة وهذا لم يمنع آحاد هعام من الاستقرار في فلسطين وقيادة معركته. توفي في تل أبيب عام 1927.

كان الجدل الرئيسي الآخر الذي قسم القادة الصهاينة حول جدوى إشراك العرب الفلسطينيين في نضالهم. حتى أن بن غوريون كان يتوهّم، وفقا للمؤرخ شلومو ساند، بأنهم أحفاد العبرانيين الذين مكثوا بعد تدمير الهيكل الثاني، قبل أن يغير رأيه بسرعة.

تبقى الحقيقة أن بوروتشوف، كمفكر ماركسي حقيقي، كان يعتقد أن للطبقتين البروليتارية العربية واليهودية مصالح مشتركة كعمال، ويجب أن تشاركا معا في الصراع الطبقي بعد عودة اليهود إلى فلسطين. بقي الموضوع الرئيسي وهو العثور على الأرض المناسبة. ولنتذكر أن المسألة المُلحّة في ذلك الوقت بالنسبة إلى مؤيدي الحل الوطني تكمن في التصدي لمعاداة السامية.

كانت هناك قضية دريفوس( التي هزت فرنسا خلال عدة سنوات) بالنسبة لهرتزل، والمذابح في الإمبراطورية الروسية – وهو أمر أكثر دراماتيكية بكثير لدرجة أن رئيس المنظمة الصهيونية العالمية بدأ يضاعف الاتصالات الدبلوماسية ولكن سلطان الإمبراطورية العثمانية رفض السماح بالاستقرار في أرض فلسطين.

في كتابه “دولة اليهود” الذي نشر في عام 1896، فكرثودورهرتزل حتى في مستوطنة في الأرجنتين، و بعد مذبحة كيشينيف في عام 1903، عرض رئيس الوزراء البريطاني تشامبرلينعلى هرتزلمنطقة في أوغندا. انقسم الصهاينة بعنف حول هذا الحل، قبل أن يصدروا قرارا في عام 1905 يرفض أي تسوية خارج فلسطين. يجب أن نتذكر أيضا اقتراح إقليم بيروبيدجان المتمتع بالحكم الذاتي الذي قدمه الزعيم الروسي ستالين لليهود في عام 1934 والذي لم يتقبلوه إلا بحماس محدود.

إن اختيار الصهاينة لأرض فلسطين يشكل قطيعة، بل وحتى إعلانا للحرب، مع الطوائف اليهودية ومع التقاليد اليهودية. تجدر الإشارة إلى أن المناضلين والنشطاء الصهاينة كانوا غارقين في الأيديولوجية الماركسية، وبالتالي ملحدين ومعارضين بشدة للتقاليد الثقافية والدينية ليهود الشتات. لم ينظر أنصار التراث اليهودي بشكل إيجابي إلى هذه الحركة الثورية بكل معنى الكلمة.

عندما أراد هرتزل عقد أول مؤتمر صهيوني في ميونيخ، عارضه ما يقرب من 95٪ من الحاخامات الألمان، وعقد المؤتمر أخيرا في بازل السويسرية في عام 1897. كما أن الحلم الصهيوني لم يجد له صدى إيجابيا بين مئات الآلاف من اليهود الفارين من الإمبراطورية القيصرية والباحثين عن ملجأ في أمريكا، ولا بين يهود أوروبا الغربية، السعداء بمصيرهم على الرغم من بعض الاضطرابات.

خلال القرون التسعة عشر التي استمر فيها نفي اليهود – وهي حلقة تاريخية أعيد تأسيسها بشكل مصطنع لمنح الطابع الوطني والوحدوي إلى ملحمة العودة من الشتات – لم تعتبر “أرض إسرائيل” أبدا وطنا مفقودا أو ملاذا محتملا. لقد حظر التراث التلمودي أي استقرار جماعي قبل ظهور المسيح المخلص ولم يرفع الحظر إلا في عام 1948 تحت ضغط الأحداث حيث رأى اليهود أنها أسطورة بعيدة وخالدة.

كانت جملة “إلىالعام المقبل في القدس” الشهيرة تعويذة أو دعاء دون أي رغبة حقيقية في إعطائها مضمونا حقيقيا و ملموسا. لقد عشت في الملاح (ما يعادل الحي اليهودي) في مكناس في مناخ عائلي يطبعه احترام التقاليد الدينية. كنا ما يقرب من عشرين ألف نسمة و عندما جاء الصهاينة هناك في عام 1948 “لإحضار” اليهود إلى إسرائيل، واجهوا صعوبة كبيرة في العثور على متطوعين للمغادرة، ومع ذلك، كانت الظروف المعيشية صعبة للغاية بالنسبة لمعظمهم.

وبالإضافة إلى ذلك، كان المغرب يمر بفترة غير مستقرة بسبب النضال من أجل الاستقلال وقُتِل ستة تجار يهود في مكان غير بعيد عن مكناس خلال مظاهرات ضد الحماية الفرنسية.

ومع ذلك، اضطر الصهاينة إلى اللجوء إلى جميع أنواع التلاعبات لإقناع بضع عشرات الآلاف من اليهود بالذهاب إلى فلسطين. لم يتمكن الموساد والوكالة اليهودية أخيرا من تنظيم هجرة جماعية إلا في عام 1961، بعد مناورات إجرامية في بعض الأحيان، وبفضل دعم الملك الجديد الحسن الثاني. ولكن بمجرد الوصول إلى هناك، كان مصيرهم الحزن وخيبة الأمل. قال لي والدي في عام 1969، بعد عام من مغادرته القسرية تقريبا: “هل تعلم يا ولدي أن الناس هنا، الصهاينة، ليسوا يهودا حقيقيين”.

علاوة على ذلك، وجد النصف الآخر من اليهود المغاربة ضالتهم في الهجرة إلى فرنسا وكندا وإسبانيا وغيرها.

وبمجرد أن صوّب الصهاينة أنظارهم نحو فلسطين – التي لم يكن لديهم أي فكرة عنها، ولا كيف هي هذه الأرض ولا من يعيش فيها – لم يكن هناك قوة قادرة على إيقافهم. أحيانا أعطي هذه الصورة عن “البنائين الرواد” الذين سعوا إلى خلاص الشعب اليهودي المحتضر، عبر تحويله إلى أمة حديثة وفخورة وديناميكية وقوية وعنيدة وغير قابلة للتدمير وموحدة واشتراكية وإنسانية ومتضامنة ونقية وأخلاقية. تخيل “جيشا أحمر” صغيرا على طريقة تروتسكي، قوامه حوالي خمسين ألف جندي، مصمما على تحقيق أهدافه مهما كان الثمن. لا شيء يمكن أن يوقفهم لأن عقيدتهم هي أن الغاية تبرر الوسيلة. بالطبع، كانت لديهم أخلاق عالية و كانوا حسب زعمهم ذوي دوافع إنسانية وينتمون إلى التيارات الاشتراكية. لقد قدموا أنفسهم على أنهم مثاليون غير مهتمين بالأمجاد والمنافع المادية. لقد اجتاحوا فلسطين في موجات متتالية ، وبنوا هذا المجتمع المثالي انطلاقا من شبكة الكيبوتسات ( المستوطنات الفلاحية الأولى ) التي روجوا لها ولسمعتها في العالم، وهي سمعة أعمت خلال عدة عقود جزءا كبيرا من اليسار الفرنسي..

كانت هذه التجمعات القريبة من الشيوعية المثالية هي بوتقة الالتزام الصهيوني ومثلت أيضا الجوانب الأخرى الأقل نبلا. كانت مستقرة استراتيجيا كحصون للمعارك المستقبلية ضد العرب وتم تأسيس بعضها وراء نهر الأردن للإشارة إلى الإرادة الصهيونية لاحتلال ضفتيْ النهر ، ولكن تم نقلها إلى الأراضي الانتدابية بعد عام 1918. هناك مثال آخر يتعلق بتل حاي، وهي مستوطنة تقع في أقصى الشمال، بعيدا عن مراكز الاستعمار اليهودي، لرسم حدود الدولة المستقبلية بطريقة ما و دمّرها العرب عام 1920، وحلت محلها كريات شمونة، “مدينة الثمانية” بعد الاستقلال، وهي تمجد روح المقاومة والتضحية الرائدة. أنتجت هذه التجمعات الزعماء السياسيين والعسكريين الرئيسيين، وبالتالي شكلت أسس هذا المجتمع الجديد: هو مجتمع نقي عرقيا و منخرط في مشروع إلهي وليس له قيود ومقتنع بصواب خياراته وضميره مرتاح.

إن هؤلاء الصهاينة – لا نجرؤ على القول إن هؤلاء اليهود لأنهم استبدلوا “اليهودية القومية” ب “اليهودية المسيحانية” ،وهذه الصيغة هي من ابتكار ياكوفرابكين – قد أسسوا قاعدة حديدية من خلال اكتشاف السكان العرب. كان الكيبوتسات – جوهر التجمعات الصهيونية – هي التي منعت الفلسطينيين من أن يكونوا جزءا منها. كانت المركزية النقابية الكبيرة، الهستدروت، التي أسسها الصهاينة التقدميون، لا تقبل سوى الأعضاء اليهود. عندما بدأت المدن تزدهر وتنمو، مثل تل أبيب، كانوا ينصحون أصحاب المشاريع بعدم توظيف العرب. على المرء أن يتخيل سكانا يهوديين، وهم في الحقيقة لاجئون من أصل جرماني أو روسي، وهم يسعون إلى تدبير أمورهم في ظروف صعبة ولا يتقاسمون النظرة الفوقية الاستعلائية التي تروج لها المؤسسة الصهيونية، وكان بإمكانهم العيش والتعايش بشكل جيد مع سكان البلاد الأصليين.

بدأت هذه المؤسسة الصهيونية في وقت مبكر من ثلاثينات القرن العشرين في رسم مشروع “ترحيل الفلسطينيين خارج الدولة اليهودية المستقبلية وهو ما وصفه المؤرخ بيني موريس بشكل جيد في أطروحته و يوضح اقتباس من كلام رئيس الصندوق القومي اليهودي هذه الحالة الذهنية جيدا: “يجب أن يكون واضحا أنه لا يوجد مكان لشعبين في هذا البلد. الحل الوحيد هو أرض إسرائيل، بدون عرب ولا توجد طريقة أخرى سوى ترحيل العرب من هنا إلى الدول المجاورة. لا ينبغي أن تبقى ولا قرية واحدة ولا قبيلة من هؤلاء البدو”. ونحن نعرف ما حدث بعد عام 1948 من تطهير عرقي. لم يجازف هؤلاء الصهاينة ” الطيبون ” إلى حد الإبادةالتامة لأن عدد الوفيات ظل في حدود ألف حالة وفاة تقريبا ، حسب الأرقام الرسمية.

هذه المرحلة ليست مجرد جزء من التاريخ. لقد ميزت بعمق تطور المجتمع الإسرائيلي حتى اليوم. هناك فصل محكم تقريبا بين المجتمعين الإسرائيلي والفلسطيني، هناك نظامان مدرسيان منفصلان من روض الأطفال إلى البكالوريا، واحد يهودي وواحد عربي. يسمح قانون دولة الأمة اليهودية لعام 2018 للمدن “اليهودية” بحظر توطين المواطنين العرب الإسرائيليين. عندما تم افتتاح كلية الطب في صفد بمنطقة الجليل، تسجل فيها بعض الطلاب العرب الإسرائيليين.

وأصدر حاخامات المدينة مرسوما دينيا، وقعه خمسمائة حاخام في المنطقة، يحظر على سكان المدينة البيع أو الكراء للطلاب العرب وفي حيفا، وهي مدينة مختلطة تاريخيا، أنشأت المستشفيات أجنحة منفصلة للولادة. وأخيرا يجب أن ننظر بنوع من الذهول إلى “العبقرية” الصهيونية التي لا تزال قادرة على استبعاد المواطنين غير اليهود خلسة من كل مجالات الحياة.

إن ما يقرب من سبعين ألف بدوي يعيشون في صحراء النقب وليس لديهم ماء أو كهرباء أو مدارس لأن قراهم لم “تعترف” بها الإدارة. وفي نهاية المطاف حول موضوع “ترحيل” السكان غير المرغوب فيهم، فإن أفيغدور ليبرمان، وهو مواطن من مولدوفا السوفياتية، ووزير المالية الحالي، يستحضر بانتظام هذا الاحتمال ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية، في حين أن الصهاينة “الطيبين جدا ” يلتزمون الصمت الحذر.

وفي غياب معالم دينية أو تاريخية تعزز أطروحتهم ، سيجعل الصهاينة البلاد وطبيعتها ومناظرها موضوع طقوسهم وتضحياتهم. ستحل الأرض محل الكتاب المقدس. سوف تكتسب “أرض إسرائيل” مرتبة الأسطورة. سيتم تقديسها والإعجاب بها ورفعها إلى مقام النموذج المثالي والاحتفاء بها والتغني بها. إنه شعب كامل سوف ينشد الأشعار في مدح هذه الأرض على طريقة الشاعر الفرنسي شارل بيغي. ويبدو أن تعلقه وحماسه يراد منه التعويض عن غياب دام ألفي عام حيث تصبح الأرض هي المبتدأ والخبر للمشروع الصهيوني و لا يمكن للمرء أن يتخيل، خارج إسرائيل، مدى هذه العبادة الوسواسية التي يتعامل بها الصهاينة مع الأرض.

ابتداء من مرحلة المدرسة الابتدائية ، يتم تلقين التلاميذ ، من خلال الرحلات المنتظمة والإلزامية ، لمعرفة كل ركن من أركان هذا الوطن “المحبوب”. وحتى في كلمات الأغاني يتم ترسيخ الارتباط الوجودي وغير القابل للتغيير، بالأرض في ذاكرة الإسرائيليين. هذه الأغاني ليس لها تاريخ محدد بعض إن بعض “الأغاني الشهيرة ” تعود أحيانا إلى ما قبل إنشاء دولة إسرائيل، لكنها تنتقل من جيْل إلى جيْل ويوم السبت هو مناسبة لجميع المحطات الإذاعية لإعادة بث هذه المقطوعات الموسيقية الخالدة التي تذكّر بالعصر البطولي.

تقول إحدى تلك الأغاني القديمة: “سنبني أرضنا، وطننا، لأن هذه الأرض لنا، إنها أرضنا. هذه هي وصية الأجيال السابقة، وصية دمائنا”. تقول أغنية شهيرة أخرى: “لقد جئنا إلى هنا للبناء وإعادة البناء”. هذه هي الديناميكية التي تؤدي إلى إنتاج “اليهودي الجديد”.

ولسوء الحظ ! كانت هذه الأرض مأهولة بالفعل ولكن على طريقة غزاة الغرب الأمريكي، وغيرهم من الغزاة الذين سيتبعونهم، سيكرر الصهاينة نفس الأساطير مثل الأرض البكر أو الصحراء الفارغة أو إذا كانت مأهولة نسبيا من قبل بعض القبائل التي لا تستقر هناك والتي تكون حقوق ملكيتها مشكوكا فيها ، لأنها لا تعتني بأرضها ولا تزرعها بل تهملها وفي نهاية المطاف، لن يكون لتلك القبائل الحق في الحصول عليها في مواجهة شرعية السكان المنظمين تنظيما جيدا الذين سيعرفون كيف يعملون من أجلها. منذ الموجات الأولى من ” الرواد المؤسسين “، تحدثت الدعاية الصهيونية بالفعل عن “أرض مقفرة ومهجورة تطالب بشغف بمن يصلحها ويعتني بها”. ومن هنا جاء نجاح شعار: “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” الذي كان لا بد من تكييفه وفقا للواقع.

وهكذا ظلوا يصورون أرض فلسطين، قبل وصول الصهاينة، على أنها أرض مهجورة وقاحلة فقدت خصوبتها، وفي حالة من الفوضى البدائية. وحدها المستوطنات اليهودية هي القادرة على تجديدها، لأنها أنشئت أساسا على مناطق مقفرة، وعلى المستنقعات والرمال، وعلى التلال القاحلة والصحراوية. هذه أسطورة عنيدة أخرى للدعاية الصهيونية. ولو لم يكن ذلك كافيا، سيتم اللجوء إلى أسطورة سكان عرب أجانب عن فلسطين استغلوا الوجود البريطاني واليهودي والازدهار الذي جلبوه إلى هناك للاستقرار بشكل غير قانوني على هذه الأراضي. وبالتالي فإن أي مطالبة عربية بفلسطين ستنزع عنها الشرعية، وستثبت صحة العقيدة الصهيونية بشأن الروابط الوجدانية والأبدية والمقدسة بين هذه الأرض والشعب اليهودي. ألم تكن هي الأرض الموعودة من الله للشعب اليهودي؟ وهذا الشعب وحده هو القادر على إقامة علاقة عضوية وأصيلة مع “أرض إسرائيل” ويعمل على ازدهارها وتجديد دمائها.

كان هذا التحول الصهيوني “العبقري”، القاسي والوحشي، يهدف إلى تدمير جميع المؤسسات الفلسطينية وربما تكون هذه هي المرة الوحيدة التي يحرم فيها الغازي نفسه من المرافق الموجودة: المزارع وورشات العمل والمعاصر والبساتين والمحلات التجارية والكنائس والمساجد والقرى بأكملها. سيتمكن الزوار المستقبليون من الصراخ (لقد شاهدت ذلك): “إن ما أنجزتموه هنا معجزة كبرى. لم يكن هناك شيء من قبل وقمتم ببناء كل شيء من الصفر. »

ومثل غزاة الغرب الأمريكي Far West الذي نفخت فيه الأساطير ، عرفت الملحمة الصهيونية لحظة مجدها ، التي انتشرت على مدى عدة عقود. إن فيلم Exodus ، الذي أخرج في عام 1960 بمساهمة الممثل المعروف بول نيومان ، والذي طبع اللاوعي الجماعي الغربي لمدة جيل على الأقل. وحتى بعد حرب حزيران 1967، التي تم إعدادها بعناية بالغة وتحولت إلى حرب وقائية مشروعة، شهدت احتلال إسرائيل عسكريا لأراض شاسعة، حيث عرض ملايين العرب وعشرات الآلاف من الشباب الأوروبيين التطوع لعدة أشهر في الكيبوتسات للمشاركة في العمل الإنساني والسلمي وتحقيق المساواة، وهي الفضائل التي يفترض أنها فضائل الصهيونية بامتياز.

وقد عزز هذا فقط اعتقاد الصهاينة بأنه من حقهم امتلاك كل شيء ، وأنهم يستطيعون فعل أي شيء تقريبا طالما أنهم احترموا الشكليات.

وعندما يتعلق الأمر بالشكليات، فإنهم يعرفون التعامل معها جيدا، وإلا كيف يمكن تفسير هذا النوع من الحق الإلهي في امتلاك أرض فلسطين التي وعد بها الرب يهوه والتي استعادها الشعب المختار بعد ألفي عام من الغياب؟ غريب جدا؟ماذانقول إذن عن الحاجة الماسة لتأسيس الأمة اليهودية، التي تعرضت للتمييز والقمع من طرف الأمم الأخرى خلال عدة قرون، إلى أن يكون لديها قطعة أرض صغيرة خاصة بها، صغيرة جدا، لتعيش أخيرا في سلام وأمن؟ ومن ثم فإن اليهود لم يكونوا عنيفين أبدا، ولن يؤذوا أحدا. حسنا ، سوف يتعلمون الدفاع عن أنفسهم ، فمن الضروري ، ولكن فقط إذا تعرضوا للهجوم ، إذا تم منعهم من تحقيق نموذجهم الاشتراكي والإنساني … يمكن للمرء أن يربط بين فكرة أن كل أيديولوجية تشتمل في داخلها على شرعية استخدام العنف، و أن الغاية تبرر الوسيلة، نظرا لقربها الأيديولوجي من البلشفية.

إن المشكلة مع الصهاينة هي اعتقادهم الراسخ بأنهم دائما على صواب مهما فعلوا. حتى عندما يقتلون. لديهم جيش، بالتأكيد وذو قدرات كبيرة، ولكنه جيش “الدفاع”. وإلى جانب ذلك، فهو الجيش الأكثر أخلاقية في العالم، والذي يحترم لأخلاق اليهودية المشهورة بتسامحها ومساواتها. إذا كنا في الخارج لا نسمع عنها كثيرا، فإن وسائل الإعلام الإسرائيلية ترددها على المسامع باستمرار.

وبشكل ملموس، يفتح هذا الجيش الملفات في كل مرة يصاب فيها فلسطيني من الضفة الغربية أو يُقتل في مظاهرة أو “عن طريق “حادث عرضي”، وتغلق الملفات ما لم تكن هناك كاميرا تسجل الوقائع و لذلك يقومون بإجراء محاكمات صورية ليظهروا للعالم ولمجتمعهم مدى عدالتهم وطيبوبتهم. هناك وصف شهير ينطبق تماما على الجيش الإسرائيلي: “نحن نطلق النار ونبكي”. يمكننا أن نرتكب أسوأ الانتهاكات – انظر الشهادات القليلة الدامغة حول جرائم الحرب التي ارتكبت ضد المدنيين الفلسطينيين لإجبارهم على الفرار في عام 1948 –ولكن الصهاينة يظلون أبرياء لأنهم لم يكونوا يقصدون كل تلك الإساءة والخطأ ممكن في تلك الظروف ، علاوة على ذلك ، فإنهم يأسفونبشدة على ما حدث.

في نهاية حرب الأيام الستة، تم جمع شهادات الجنود من الكيبوتسات – وبعبارة أخرى، النخبة الأخلاقية والسياسية في البلاد – في كتاب بعنوان اليوم السابع. وهو يبين أن الجنود الإسرائيليين لم يكن لديهم عداء شخصي تجاه العرب، وأن العنف الذي ألحقوه بهم كان يزعج ضمائرهم: “لقد أجبرتنا الظروف على أن نكون قساة جدا ” أليسوا محاربين أبطالا على الرغم من إرادتهم. إن القلق الأخلاقي الذي ينقله الكتاب لا ينتج عن آثار العنف على المهزومين ولكن على المنتصر. هذا هو فساد الروح اليهودية.

وقالت رئيسة الوزراء السابقة غولدامائير: “لن نغفر أبدا للعرب إجبارنا على قتل أطفالهم”. وكان الكاتب الصهيوني التقدمي الشهير الذي أعجب به الإسرائيليون لقدرته على تبرئة أنفسهم وإظهار فضائلهم العميقة للعالم، عاموس عوز، أحد المحاوَرين في الكتاب وقد انتقد العرب لأنهم “أفسدوا روح إسرائيل بإجبارها على كراهيتهم”.

أتذكر أنني سمعت في فيلم وثائقي إسرائيلي هذه الشهادة الدامغة من رجل في الثلاثينات من عمره، وهو يمارس مهنة الطب، خلال فترة التجنيد العسكري:بينما كان يقوم بدورية في الضفة الغربية، طرق في الساعة الثانية صباحا باب منزل، كما يطرقه الجنود ولم يفتح الباب بسرعة فألقي قنبلة يدوية على فناء الدار فقتلت فتاة صغيرة من أهل المنزل عمرها خمس سنوات. ثم يعبر الرجل عن ندمه. وردا على سؤال الصحفي: “هل فكرت في الاعتذار؟”، أجاب بعد دقيقة صمت: “عفوا؟ لكن الأمر متروك لسكان المنزل للاعتذار لأنهم من خلال تأخرهم في فتح الباب أرغموني على إلقاء القنبلة اليدوية والتسبب في وفاة بنتهم”.

إنه نفس الضمير المرتاح الذي يجعل من الممكن تدمير عمارة كاملة في غزة بعد صاروخين أو ثلاثة صواريخ محلية الصنع. لكن الجيش الإسرائيلي الطيب القلب يخبر أهل العمارة قبل عشرين دقيقة، وهو نفس الوقت الذي يسمح به لعائلة فلسطينية لأخذ بعض الممتلكات وإخلاء المنزل قبل تفجيره ويمكن للعائلة دائما التنقيب بين الأنقاض لاستخراج بعض الأغراض التذكارية. إنه عقاب جماعي تحظره اتفاقيات جنيف، ولكن كما ترون فإن هؤلاء العرب لا يفهمون سوى لغة القوة، وفي أعماقهم لا يريدوننا أن نظل على هذه الأرض

هذا موقف تتقاسمه الأغلبية الساحقة من الإسرائيليين اليهود، وهم الوحيدون الذين يؤدون الخدمة العسكرية (باستثناء الدروز ولكن عدد هؤلاء قليل جدا). والواقع أن العداء الصهيوني للعرب يعود إلى لحظة وصولهم إلىفلسطين، أولا لأن العرب هم الذين أحبطوا مخططاتهم، وثانيا لأنهم كانوا يمثلون النموذج الأولي للسكان المحليين الذين عاملهم الأوروبيون “المتحضرون” بازدراء في كل المستعمرات.

قد يكون المرء يهوديا وتقدميا، لكنه مع ذلك يحتفظ بشعور بالتفوق مشوب بالازدراء، حتى تجاه “إخوانه في الدين” الأقل ثراء. بالفعل لم يكن لدى الأيديولوجية الصهيونية سوى ازدراء يهود الشتات المذنب والمسؤول عن كل أوجه القصور التاريخية. بعد إنشاء الدولة في عام 1948، احتاج الصهاينة إلى جنود، وعمال الصناعة والفلاحة وعائلات كبيرة لملء البلاد. كانوا ستمائة ألف فقط في ذلك الوقت. أين سيعثرون على كل هؤلاء المواطنين في المستقبل؟

كان اليهود في أوروبا والأمريكتين مترددين في الذهاب إلى إسرائيل. كان من بينهم “الصهاينة” بالقلب الذين يساعدون بالمال ولا شيء غير المال، بقيت إذن البلدان العربية بطوائفها اليهودية الهائلة، ولكنها كانت مترددة في مغادرة بيئتها المعيشية بقدر ما كانت لا تؤمن بالهراء الذي يتعارض مع النصوص المقدسة. استخدم الصهاينة أكثر المناورات خبثا (وهذه عبارة ملطفة) لحملهم على المغادرة. ولكن عندما وصلوا إلى هناك ، كان المشهد مروعا. لأنه من هذه الطوائف لم يغادر سوى اليهود الأكثر فقرا والأقل تعليما. في الواقع، كانوا يشبهون العرب الذين طردهم الصهاينة للتو.

وهنا تلقّت صورة إسرائيل ضربة قوية. تخيل اشمئزاز هؤلاء “الرواد المؤسسين” الأوروبيين في طليعة الحداثة أمام هذه الجحافل الشرقية. ثم تلت ذلك فترة طويلة جدا من العنصرية التي بالكاد تخفى نفسها– ولعل أسوأ أفعالها الخبيثة هو اختطاف الأطفال اليمنيين في أجنحة الولادة لإسنادهم إلى عائلات يهودية أشكنازية – ثم التشهير والتمييز العنصري الذي لا زالت عواقبه تبرز هنا وهناك حتى اليوم.

ثم جاء “اليهود” (10 إلى 15٪ منهم لم يكونوا يهودا حقيقيين وفقا للقانون الحاخامي ، والذي يمثل مشكلة عند الزواج أو الدفن) من الاتحاد السوفيتي السابق ، الذين تعرضوا للتمييز حسب أصولهم ، حيث حصل سكان موسكو على التفضيل على حساب الجورجيين. وأخيرا، جاء يهود الفلاشا الذين تم قبولهم على مضض، والذين تعرضوا لمحاولة إعادة اعتناق اليهودية ، والذين يعانون من العنصرية العادية المتوجهة نحو السود. وفي الوقت نفسه، فإن الأرثوذكس المتطرفين الذين مثلوا 2 أو 3٪ في عام 1948 هم الآن بين 15 و 20٪. إن القوميين المتدينين الجدد يمثلون بين 10 و 15٪ وتضاعف عدد العرب الذين كان يعتقد أنهم تخلصوا منهم في عام 1948 أصبحوا يشكلون 20 إلى 25٪. ناهيك عن التقسيمات الفرعية في جميع هذه الفئات.

على عكس حلم الصهاينة الأوائل بدولة يهودية، يهودية خالصة واشتراكية وتقدمية وإنسانية وسلمية وأمنية حصرا، هناك الآن خليط من الطوائف المتنوعة، التي تتجاهل بعضها البعض في أحسن الأحوال من خلال كراهية بعضها البعض، والتي يمكنها حتى الاشتباك بالأيدي إن لم يكن أكثر إذا لم يوجد الخطر الخارجي، وهو خطر تدعمه المؤسسة الإسرائيلية نفسها وتنفخ فيه.

بين عامي 1969 و 2004 ، قمت بعشرات الزيارات إلى إسرائيل. لقد استقر جميع أقاربي هناك. ومن وجهة نظر مغربية، هذا عدد كثير من الناس و يتوزع هؤلاء الأشخاص بين جميع الطوائف والخلفيات تقريبا ، من وجهة نظر السياسة والدين والثقافة والاقتصاد والتعايش مع حالة الحرب هو جزء من حياتهم العقلية اليومية. وحتى عندما توقع إسرائيل معاهدة سلام مع دولة عربية، فإنهم يظلون على أهبة الاستعداد، ولا يثقون في المعاهدة. لقد قاموا بتبني شعار الغزاة الأمريكيين عن الهنود الحمر : “إن العربي الجيد هو العربي الميت”.

لقد بنيت إسرائيل على كراهية العرب. ربما لم تكن لديهم الفرصة من أجل القيام بخلاف ذلك. ولكن منذ عام 1967 فصاعدا، أصبح هذا خيارا متعمدا تمكنت المؤسسة العسكرية الأمنية من فرضه على سكانها. واستسلمت هؤلاء لهذه الفرضية. إن الاعتقاد الشهير لإيهود باراك، البطل الذي شغل جميع المناصب المرموقة، يحافظ على راهنيته في اللاوعي الجماعي: “ما إسرائيل إلا عبارة عن فيلا في وسط الغابة”.

لقد تمادى الصهاينة في الدعاية والتلاعب إلى نقطة غير مسبوقة. لقد تم بذل كل ما في وسعهم لضمان حصول المواطنين اليهود والعرب على القليل من الفرص من أجل اللقاء والتعامل. لقد تمكنوا من تحقيق إنجاز جعل خمس السكان غير مرئيين تقريبا. في حين أن الطوائف الأوروبية تبرز تنوعها مع أقل من 10٪ من الأجانب، فإن إسرائيل تعطي الوهم بأنها مجتمع يهودي خالص.

في سنوات السبعينيات من القرن العشرين، تم تداول هذه الجملة كثيرا في وسائل الإعلام الفرنسية: “إسرائيل في خطر السلام”. لم نكن نعتقد أننا نقول ما يشبه الحقيقة. إن السلام، الحقيقي، مثل الذي تعيشه فرنسا وألمانيا، مستحيل، سيكون نهاية الحلم الصهيوني أو ما تبقى منه. وللتأكد من ذلك، يكفي أن ندرك شيئا واحدا بسيطا جدا وهو أن السلام الحقيقي يعني أن اليهود والعرب الإسرائيليين يذهبون إلى نفس المدارس، ويلتقون في نفس أماكن الترفيه، ويتشاركون الخدمة العسكرية الوطنية، ويقطنون في العمارات. إنه كابوس لا يمكن أن يتخيل حجمه ورعبه من لا يعرف الواقع الإسرائيلي.

وبهذا المعنى، لقد أخطأت الصهيونية هدفها. إذا عدنا إلى البيانات الأولى، والالتزامات، والتصريحات والمثل العليا، والشخصيات البارزة. وبصرف النظر عن البعد الفلسطيني، كانت إسرائيل حتى عام 1970، مجتمعا عادلا ومتساويا نسبيا، متحدا في النوائب وبسيطا في مزاعمه. معظم الوزراء والنواب والجنود رفيعي المستوى كانوا من الكيبوتسات، ولم يمتلكوا مساكنهم الخاصة ولا ممتلكات مادية. لقد تم منح العائلات والأزواج الجدد شقة مناسبة. وبصرف النظر عن عدد قليل من رجال الأعمال، لم يكن هناك تقريبا أي مليونير. وكان أراد الكيبوتس يتجولون بفخر في المدينة وهم يرتدون الصنادل والبذلات ذات اللون الكاكي.

في 9 مارس، تم الاحتفال بالذكرى السنوية الثلاثين لوفاة مناحيم بيغن في جو من الإجماع والحماس. في وسائل الإعلام كان الشعور المهيمن هو الحنين إلى حقبة ماضية. ومع ذلك، فقد حدثتشيطنته عندما فاز في الانتخابات في عام 1977. لم يكن ينتمي إلى المؤسسة المسيطرة على مقاليد البلاد الفكرية بل كان انتخابه تفوح منه رائحة انتقام الشعب اليهودي المتواضع ذو الأصل العربي الذي كان الآخرون يسخرون من ميولاته الفاشية. لكنه كان متشبعا بالقيم الصهيونية في نزاهته وبذلاته الأنيقة التي لم يغادرها أبدا.

يتغير هذا بالمقارنة مع منزل إيهود باراك الفاخر الذي تمت الإشادة بمهارته العقارية ، ومحاضراته ذات الأجور العالية ، فضلا عن قربه من جيفري إبستين رجل الأعمال الأمريكي الذي اشتهر بجرائمه الجنسية . لأن الطبقة السياسية الإسرائيلية تغيرت كثيرا. وربما تكون إسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم – وهي أيضا دليل على استقلال قضائها – التي حكمت على رئيس وزراء سابق بتهمة الاعتداء الجنسي، فضلا عن رئيس وزراء ووزراء آخرين بتهمة الفساد، بالسجن لمدد مختلفة. وتجري حاليا محاكمة نتنياهو بعدة تهم. نتنياهو نفسه الذي دمر منظومة الحماية الاجتماعية بسياسته “التاتشرية”.

لم تعد الصهيونية تحظى بالشعبية. أصبح المال القوة الدافعة لها. لقد تحولت روح ” الرائد المؤسس” إلى الضفة الغربية و ليس إلى الكتل الاستيطانية الكبيرة التي يقيم فيها المرء لأسباب اقتصادية، ولكن بالقرب من الأماكن التوراتية مثل الخليل، أو إلى المجمّعات الصغيرة ذات الأهداف الاستيطانية البحتة: مثل الكيبوتسات الأولى، لمطاردة أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين وتطويق مدنهم. تحظى هذه الحركة بالتفاهم أو اللامبالاة، وأحيانا بالإحراج، لأنها تشوه صورة “إسرائيل الطيبة”، وهي أسطورة يتشبث بها الإسرائيليون بشدة.

لكن الدولة اليهودية موجودة أخيرا، ويا لها من دولة! إنها تستهزئ بالمنتظم الدولي و تلعب لعبة متساوية مع دولة من حجم روسيا في المنطقة، وترهب الاتحاد الأوروبي بذكريات الهولوكوست، وتتفاوض مع الصين والهند على قدم المساواة، كما تتلاعب بالسياسة الأمريكية، وتحتفظ بمناطق نفوذ في أفريقيا. لقد أصبحت إسرائيل لاعبا رئيسيا على الساحة الدولية وتوجد دول عربية تستنجد بحمايتها دون أية تنازلات في المقابل بشأن فلسطين. أليس هذا هو النجاح الباهر؟

لست متأكدا من أن هذا كان من شأنه أن يمنح السعادة والمجد إلى الصهاينة التاريخيين، وبهذا المعنى، فأليست هذه الخاتمة كلها خيبة أمل محزنة. لقد أنجبت المدينة الفاضلة الصهيونية دولة مثل أي دولة أخرى، ولكنها أقل احتراما للأخلاق من المتوسط الغربي. إن المؤسسة الصهيونية – وهنا أستخدم مصطلح المؤسسة عن قصد لإبراز أنها ليست من عمل رجل سياسي أو حزب سياسي – تسحق القيم اليهودية كما تسحق تطلعات شعبها.

ولأسباب دعائية تستهدف العالم الغربي ولإظهار أنها عضو نشط وموثوق به فإن إسرائيل في طليعة الكفاح من أجل حقوق الشواذ الجنسيين وتأجيرا لأرحام وكل ما يشبه هذه الأفعال حتى أصبحت تل أبيب واحدة من عواصم العالم التي تحتفي بالشذوذ الجنسي. لم لا؟

لكن هذا ” النضال” يُفرض بالوحشية التي نعرفها عن هذه الدولة. يتم تنظيم “استعراض المثليين” في مدينة القدس المقدسة، وذلك تحت حماية قوات أمن كبيرة، منذ جريمة اغتيال شخص معادي للمثليين ارتكبت قبل ثلاث سنوات، في حين لا تزال المثلية الجنسية من المحرمات العميقة عند غالبية المواطنين اليهود والعرب، ويعاقب عليها بعقوبة القتل في العهد القديم. إن الأحزاب الدينية، التي تصنع الحكومات وتطيح بها وهي تنتفع ماليا وسياسيا من العمليات الانتخابية المتتابعة ، لا تعبر عن أي موقف كما أن رئيس الوزراء الجديد نفتاليبينيت، زعيم حزب قومي وديني، الذي يرتدي الكيباه فوق رأسه، يتبع بإخلاص توجيهات المؤسسة الصهيونية.

يمكن للمرء أن يدفع بالمنطق نفسه إلى كيفية تعامل السلطة الإسرائيلية مع وباء كوفيد ومع التلقيح – في أكبر توافق مع الأوليغارشية العالمية وضد مصالح مواطنيها.

على هذا المجتمع – بما في ذلك الجوانب الاستعمارية والتمييزية المعروفة – سقط الحكم الرهيب على يائير غولان، نائب رئيس أركان الجيش الإسرائيلي ،في عام 2016 ، يوم إحياء ذكرى المحرقة: لقد ألقى خطابا يقارن فيه الوضع في البلاد بأوائل سنوات 1930 في ألمانيا. ، كان بمثابة نهاية حياته العسكرية وتخلى بحكم الأمر الواقع عن المنصب المرموق في إسرائيل. المؤسسة تعرف كيف تتعامل مع هذا النوع من الانزلاقات ولكن السكان لديهم انشغالات مختلفة ، والمؤسسة لا تحب من يقول الحقيقة في هذه البلاد و يحرص على نزاهته الفكرية من أجل ما يعتقد أنه المصلحة العامة.

لقد بلغت الغطرسة الصهيونية ذروتها. وها هي تتجاهل الإشارات المثيرة للقلق، مثل تقرير منظمة العفو الدولية الموثق مؤخرا عن الاحتلال الإسرائيلي وممارسة التمييز العنصري.أين وصل “شعار أرض واحدة وشعب واحد”: هل فشل المشروع الصهيوني؟ اليوم يتم تجاهل هذا الشعار الذي كان يرفع في وجه المواطنين العرب الإسرائيليين وتفضل المؤسسة الصهيونية اليوم ترديد تلك التهمة الجاهزة التي استنفذت دورها وهي تهمة “معاداة السامية “التي سوف يكون لها في نهاية المطاف تأثير معاكس. إن الأغلبية الساحقة من الطبقة السياسية اليهودية في إسرائيل والسكان الإسرائيليين ببساطة لا يرون أي بديل. وليس أمام المؤسسات اليهودية في الشتات خيار سوى الامتثال والطاعة.

ولأن مصير الشعب اليهودي بأكمله مرتبط الآن بما يحدث هناك سواء منه الحسن والسيئ. لقد شهد هذا الشعب مذهولا وغير مبال كيف حاول بضعة آلاف من المعتوهين تغيير مسار تاريخه فقاده نجاح المغامرة إلى دعمهم أكثر فأكثر وبشكل أعمى بعد أن تم إبعاد أكثر عناصره فتورا وانتقادا عن المؤسسات العمومية حتى أصبحت الصهيونية مع مرور الوقت وتعاقب الأيام والأحداث هي الدين وهي بوصلة التاريخ بل وعلة وجود هذا الشعب. لكن هذه الأيديولوجية، التي تفرض نفسها فقط بالقوة والغزو والتمييز العنصري والإملاءات، سيتم إزاحتها في نهاية المطاف من المنطقة. “يمكنك أن تفعل أي شيء بالبنادق باستثناء الجلوس عليها” كما قال أحد الثوار الفرنسيين في يوم من عام 1789.

لا يمكننا أن نقول متى أو كيف ستهار الصهيونية ولكن الشعوب العربية تلفظ هذا النظام على الرغم من اتفاقيات “السلام” التي وقعها قادة ليست لهم أية شرعية حقيقية. أما النخب الأوروبية ، التي لا زالت رهينة عقدة الهولوكوست أو المحرقة التي تفرضها المؤسسات اليهودية الصهيونية بشكل مثير للغثيان، سوف تحرر نفسها من هذه العقدة ذات يوم أو آخر. إن الزمن ينتمي إلى التاريخ وحتى الزعماء من يهود الشتات أو الإسرائيليين، يهمسون بهذه الحقيقة في لحظات استفاقة البصيرة، ومن ثم فإن الصهيونية، التي أرادت أن تقدم بديلا لحماية الشعب اليهودي، قد تعجل به نحو مأساة لا يدرك أحد حجمها.

ـ الترجمة من الفرنسية إلى العربية لموقع “لكم”: أحمد ابن الصديق

ـ ـ جاكوب كوهين كاتب ومفكر مغربي فرنسي وُلد في حي الملاح اليهودي بمكناس، مقيم الآن بالعاصمة الفرنسية باريس، حصل كوهين على بكالوريوس في القانون من كلية الدار البيضاء، ومن بعدها تابع دراسته في باريس. رجع إلى المغرب في عام 1978، وعمل أستاذاً مساعداً في كلية الحقوق بكلية الدار البيضاء حتى عام 1987. حصل على الدكتوراه عام 2012.

يٌعتبر جاكوب كوهين من أبرز المفكرين اليهود المناهضين للحركة الصهيونية في العصر الحديث، والذين يسعون إلى التفريق بين اليهودية كديانة وبين الصهيونية كإديولوجية وحركة عنصرية لا إنسانية.

من أبرز مؤلفاته: الجاسوسة والصحفي، الموساد يسيّر اللعبة (بالفرنسية)، ربيع السايعانيم (بالفرنسية)، الاله لن يعود لبيت لحم (بالفرنسية).

التعليقات مغلقة.