في الحاجة إلى تدريس: مادة: الأخلاق التطبيقية للبحث العلمي في الجامعة المغربية.

115

نظم ماستر الصياغة القانونية وتقنيات التشريع بالمغرب، بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية ٱيت ملول، بجامعة ابن زهر، أكادير، محاضرة بعنوان: ” الأخلاق التطبيقية للبحث العلمي”، من تأطير الدكتور رشيد بن بيه، أستاذ السوسيولوجيا، ومناهج البحث، في كلية اللغات والفنون والعلوم الإنسانية، في إطار ” سلسلة مناهج البحث”، الموجهة إلى طلبة الماستر المقبلين على إنجاز ( بحث التخرج). وكانت المحاضرة مناسبة لإثارة موضوع ( الأخلاق التطبيقية للبحث العلمي) Applied ethics، لأنه يرتبط بجودة البحوث، وبالقدرة على الابتكار، وبمصداقية الشهادات التي تسلمها الجامعات، وبمصداقية الأساتذة المؤطرين، وبمصداقية الباحثين أنفسهم، وبسمعة الإنتاج البحثي للبلد، وبقيمته، في خضم تنافس علمي دولي شرس.كل هذا، وغيره، يؤكد الحاجة الملحة اليوم إلى تدريس وحدات تتعلق بهذا الحقل البيداغوجي/ العلمي، في مختلف المؤسسات الجامعية، وفي مختلف التخصصات: النظرية، والتطبيقية، والمهنية.

عندما ألقى ماكس فيبر(1864-1920)، محاضرتية الشهيرتين: ” العلم بوصفه حرفة”، و ” السياسة بوصفها حرفة”، مابين 1918و1919، كان مقتنعا بأن ألمانيا، وهي في زمن الفوضى والاضطراب، وصعود الحركات الشعبوية، وتجلياتها النازية، قادرة على الخروج من ورطتها الجيوسياسية، بالعلم وبالسياسة؛ بالعلم بما هو: معرفة، وتقنية، وتقدم، واحتراف. وبالسياسة بماهي: مشاركة في تدبير الشأن العام، وبماهي: حرفة واختصاص. لكن الاختصاص، في منظور ماكس فيبر، لاينفصل عن ( الرسالية)، وعن ( الإلتزام)، وعن ( الأخلاق)؛ فإذا كان العلم والسياسة يدخلان في باب: (الواجب)، فقد وضع فيبر للواجب أخلاقا؛ هي: ( أخلاقيات الواجب) متأثرا بأستاذه إمانويل كانط(1804)، وكان فيبر يحسب على تيار: ( الكانطيون الجدد).
وكانت محاضرة: ( العلم بوصفه حرفة)، عبارة عن مقارنة بين النظامين التعليميين الجامعيين الألماني والأمريكي، جمع فيها ماكس فيبر بين خبرته بوصفه أستاذا جامعيا ألمانيا، وبين ملاحظاته أثناء زيارته لبعض الجامعات الأمريكية صيف1904. ومن خلال بحثه المقارن بين النظامين الجامعيين، وصل فيبر إلى ما يمكن أن نسميه إرهاصات أولية لمبحث: ( الأخلاق التطبيقية للبحث العلمي)؛ وتتعلق بمسؤولية الجامعة، والأستاذ الجامعي، والطالب الباحث. وفي هذا السياق يميز فيبر بين ( الأستاذ الباحث)، وبين ( الأستاذ الداعية)؛ فالأول يحلل البنيات، من منظور علمي ونقدي، والثاني يبشر باليقينيات ويدعو إلى التشبث بها والدفاع عنها، في العلم أو في الدين أو في القانون أو في المجتمع… والأول يصارح، والثاني يجامل. إن المهمة الأساسية للأستاذ الجامعي، من منظور ماكس فيبر، مهمة أخلاقية؛ وهي مهمة: الاستقامة والنزاهة في أداء واجب الوضوح الذاتي، وتوليد الإحساس بالمسؤولية عند الطلبة الباحثين. وأما الذين يبحثون، عند الأستاذ الجامعي، عن المواقف وعن التفاصيل، فهم يبحثون حقيقة عن قائد وزعيم وليس عن أستاذ. وعليه، فإن الفضيلة الوحيدة لقاعة المحاضرات في الجامعة، عند ماكس فيبر، هي: ( فضيلة الاستقامة الفكرية المجردة). وكان ماكس فيبر، في محاضراته الأخيرة، يركز على دور الشبيبة الألمانية، في تحقيق نهضة ألمانيا، لذا ألقى محاضريته المذكورتين سلفا أمام حركة: ( الطلاب الأحرار)، في ميونيخ، وهي نواة: ( اتحاد الطلاب الألمان)، ومنها تخرج مفكرون وقادة فكريون وسياسيون كثر، في التاريخ الحديث لألمانيا. وكان يردد ماكس فيبر : ألمانيا أرض للأبناء وليست للٱباء!!
لقد كان فيبر واعيا بالمشاكل التي كانت تعيشها الجامعة الألمانية، و كان عارفابمحدودية برامجها الأكاديمية، وبانسداد الأفق البحثي والمهني أما الخريجين مقارنة بالجامعات الأمريكية، في بداية القرن الماضي. كما كان واعيا بمعادلة: التخصص والثقافة، داخل البرامج الدراسية للجامعات؛ وبقدر ماكان متحمسا للتخصصات العلمية الدقيقة في الجامعة، بقدر ماكان محذرا من المتخصص، عندما يتحول إلى ( خبير بدون روح)، أو إلى ( إنسان متلذذ دون قلب). في هذا السياق كان فيبر حريصا على إدماج ( الأخلاق البحثية) ضمن الممارسة البحثية، وأن يكون تعليم أخلاق البحث ضمن رسالة الجامعة. وتظهر هذه التوجهات الأخلاقية للبحث بشكل بارز في كتابه: ( الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية).
ولم تستطع هذه الإرهاصات التأسيس، الإبستمولوجي، لحقل متكامل، حول: ( الأخلاق التطبيقية في البحث)؛ إذ سرعان ما انطلق البحث العلمي من عقاله، من دون ضوابط أخلاقية. وارتهن البحث العلمي إلى (أيديولوجيا السوق)؛ أي الربح. واختطف المال البحث العلمي، من خلال التمويل والتكريم والجوائز، كما تم بسط أيديولوجيات، إمبريالية، وعنصرية، وعرقية، ودينية، على البحث العلمي، وعلى الباحثين، وعلى المؤسسات البحثية. ونتج عن هذا هدر كرامة الإنسان، وكذا البيئة، وكل القيم الجميلة في العالم، تحت ذريعة: ( أيديولوجيا العلم) و( التجريب العلمي)، و( الموضوعية)… وانتهى البحث العلمي إلى باراديغم: فصل الحقيقة عن القيمة، وفصل العلم عن الأخلاق. وهذا ماسبب بإشكالات علمية/ أخلاقية، خصوصا في مجالات: الطب، وعلوم الأحياء، وتكنولوجيا المعلومات، وصناعة الأسلحة، والتجارية النووية، والصناعات الدوائية وغيرها… هذا مادفع إلى التفكير في عمليات ( تخليق) البحث العلمي، التقني والتطبيقي، بالدرجة الأولى. فبدأت المؤتمرات والندوات والمنظمات في الدعوة إلى صياغة مواثيق: ( الأخلاق التطبيقية للبحث). وقد تحققت في هذا المجال تطورات مهمة لايتسع المجال لذكرها هنا.
وبقي مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية بعيدا، نسبيا، عن هذا التحول الذي حصل في العلوم التقنية والطبية، إلى حدود سبعينيات القرن الماضي؛ إذ بدأ الحديث عن ( الأخلاق التطبيقية في البحوث الاجتماعية والإنسانية)، وتمت برمجة وحدات تدريس في كل الجامعات الأمريكية، وفي أغلب الجامعات الأوروبية. وقد برز هذا الاهتمام في العلوم الاجتماعية، أمام المشاكل التي بدأت تطرحها مجموعة من البحوث الميدانية، والقانونية، والسوسيولوجية…بما ترتب عنه من مساس بكرامة الإنسان، وبخصوصياته، وبمقدرات البيئة… ثم انضاف إلى هذا النوع من المشاكل سرقات البحوث العلمية، وانتحال الأفكار، وإهدار أخلاق: الأمانة، والتوثيق، والموضوعية.
ويظهر واقعنا الجامعي في العالم العربي اليوم أننا أمام معضلة أخلاقية حقيقية؛ تتعلق بالسرقات، وبالتحيزات، وبالفوضى البحثية، وبترسيخ انفصال القيمة البحثية عن الأخلاق البحثية. قد يسبب في هذا افتقاد الباحثين لمهارات البحث، مما يتمرس عليه بالتدريج، من خلال الورشات التدريبية، وهو ليس عيبا على كل حال. لكن، يكون الأمر مرعبا عندما يفتقد الباحث الأخلاق التطبيقية؛ من النزاهة، والاستقامة، والموضوعية. وعندما يتحول البحث العلمي، والتأطير العلمي، إلى وسائل للتربح، والثراء، واكتساب الباحثين الأتباع/ العبيد، وإلى الترقي الاجتماعي، وإهدار أخلاق: الاستحقاق، والكفاءة.
نحتاج اليوم إذن إلى برمجة وحدات: الأخلاق التطبيقية للبحث؛ من مثل: أخلاق التدريس، أخلاق الابتكار، أخلاق النقد، أخلاق الموضوعية، أخلاق التواصل، أخلاق الحوار، أخلاق التأطير والإشراف، أخلاق التوثيق والإحالة، أخلاق الاستنتاج، الأخلاق المهنية، أخلاق البحث الميداني، أخلاق التجربة، أخلاق التدبير، الأخلاق القانونية، أخلاق القضاء والتقاضي، أخلاق المحاماة والترافع، أخلاق الاختلاف والمناظرة… عن صفحة الدكتور محمد همام

التعليقات مغلقة.