فضيحة سياسية

34

لا أظن أن الثورة المصرية قامت، أو أن مئات الشهداء ضحوا بحياتهم لكي يتمخض الأمر في نهاية المطاف عن الوثيقة الملغومة التي أعلنت يوم الثلاثاء الماضي (أول نوفمبر) وقدمت بحسبانها متضمنة للمبادئ الأساسية للدستور. ذلك أنها خيبت آمالنا وتحولت إلى فضيحة سياسية، أقل ما يمكن أن توصف به أنها أهانت الشعب المصري وثورته. بل لوثت سجل الذين أعدوا «الطبخة»، وفي المقدمة منهم الدكتور علي السلمي نائب رئيس الوزراء، الذي نعرفه نزيها ومشرفا، بحيث أضافت إلى سجله صفحة سوداء أخشى أن تطغى على ما نعرفه عنه وما يحسب له

لي عدة ملاحظات على هذه الوثيقة، التي نحمد الله على أنها مازالت «مسودة» ولم تتحول بعد إلى قرار أو مرسوم، الأمر الذي يسمح بصرف النظر عنها، هذا إذا لم يحاسب المسؤولون عنها سياسيا، ليدفعوا ثمن الصدمة التي سببوها لنا، والإهانة التي وجهوها إلى شعب مصر وثورته، ناهيك عن الشكوك القوية التي أثارتها بخصوص نوايا دور القوات المسلحة التي عرفناها درعا للوطن، ثم جاءت الوثيقة البائسة لتحولها إلى عبء عليه

ملاحظاتي تتوزع على الشكل والمضمون في الإعلان المذكور. ما يخص الشكل منها يمكن تلخيصه في النقاط التالية

توقيت الإعلان جاء غريبا ومريبا. ذلك أنه جاء قبل أربعة أسابيع تقريبا من التصويت على انتخابات مجلس الشعب، وعقب سلسلة من التوترات التي سادت البلد، والتي لا يزال يكتنفها الغموض، في حين يتواتر الحديث عن طرف ثالث مجهول سعى إلى إثارة الفوضى وإشاعة البلبلة. (هكذا قال وزير الداخلية في حواره على إحدى قنوات التلفزيون مساء الأربعاء الماضي 2/11). ولأننا عجزنا حتى الآن عن أن نتعرف على هوية ذلك الطرف الثالث، فمن حقنا أن نتساءل عما إذا كانت تلك التوترات بمثابة ستارة الدخان التي تصور البعض أنه يمكن في ظلها تمرير الإعلان، دون الانتباه إلى الألغام المبثوثة فيه. وإذا لم يكن الأمر كذلك، فلنا أن نسأل أيضا ما الحكمة في إثارة الموضوع الآن بعد صمت دام ثلاثة أشهر، في حين أن القضية المطروحة في البلد هي كيف يمكن إجراء انتخابات تشريعية حرة ونزيهة تضع الأساس لتشكيل أول مؤسسة تمثل المجتمع في النظام الذي انطلقت الثورة لإقامته

لا يزال الدور الذي قام به الدكتور علي السلمي وفريقه مثيرا للدهشة. إذ بأي حق يقوم نائب رئيس مجلس الوزراء بمهمة من هذا القبيل، وأنا هنا لا أتحدث عن الشخص الذي أكن له مشاعر الاحترام والتقدير، (انسَ أنه قادم من حزب الوفد المفترض أنه ليبرالي!)، لكني أتحدث عن الدور أو الوظيفة، سواء قام بها هو أو غيره من نواب رئيس الحكومة. وسواء قام الرجل بالمهمة لأنه مختص بالشؤون السياسية والديمقراطية، أو كلف بها من قبل المجلس العسكري، فلا ينبغي أن نتجاهل أن كليهما ليس منتخبا من الشعب. وبأي معيار قانوني أو سياسي أو ديمقراطي، فإن المعين أو المفروض بحكم الأمر الواقع ليس له الحق في أن يقيد المنتخب. وكل ممارسة من جانبهما على ذلك الصعيد لا شرعية لها ولا حجية قانونية أو سياسية. حيث يعد ذلك انتهاكا صارخا للمبدأ الذي يتشدق به الجميع والذي يقرر أن الشعب مصدر السلطات. إذ بمقتضى الإعلان الذي تم فإن السلطة التنفيذية هي التي باتت تراقب السلطة التشريعية وليس العكس. في انقلاب غير مقبول على أوليات وبديهيات الممارسة الديمقراطية التي نتمسح فيها

ان نائب رئيس الوزراء غير المنتخب انتخب من جانبه 500 شخص ودعاهم إلى دار الأوبرا «لمناقشة» الإعلان في مشهد أقرب إلى الإخراج السينمائي أو التلفزيوني، لا يمت إلى الحوار الحقيقي بصلة

وهو ما يعد نوعا من التهريج السياسي. ورغم أن الذين حضروا اللقاء كان بينهم أناس محترمون إلا أنهم في نهاية المطاف إما يمثلون أنفسهم أو أحزابهم، وفي الحالتين فإن أحدا لا يستطيع أن يدعي أن المجتمع انتخبهم ووكلهم في الحديث عن مستقبله السياسي

إن الجدل الذي أثير في فترة سابقة تطرق إلى أمور كثيرة بعضها تعلق بشرعية إعلان مثل هذه المبادئ والبعض الآن دار حول موضوع المواطنة والدولة المدنية وغير ذلك، لكننا فوجئنا بإقحام وضع القوات المسلحة ضمن المبادئ الدستورية، الأمر الذي يثير تساؤلا عما إذا كان الدكتور السلمي قد تطوع بذلك أم أن المجلس العسكري طلب منه ذلك، والاحتمالان أولهما سيئ والثاني أسوأ

إن الإعلان ذكر أكثر من نقطة مثيرة للضحك. منها مثلا أن المجلس العسكري إذا لم يعجبه شيء في مشروع الدستور واختلف في ذلك مع واضعيه، فإن الأمر يعرض على المحكمة الدستورية العليا. وهذه بدعة جديدة تماما تصدم فقهاء القانون، لأن المحكمة الدستورية مختصة بنظر القوانين وليس الدساتير، ولم يقل أحد في العالم بغير ذلك. من ذلك أيضا أن دعا لأن يكون 80 من أعضاء لجنة المائة من غير أعضاء مجلس الشعب، ويشترط فيهم أن يمثلوا كل أطياف المجتمع، الأمر الذي يثير السؤال التالي: هل ارتأى معدو البيان أن أعضاء مجلس الشعب المنتخبين غير ممثلين لأطياف المجتمع، وإذا صح ذلك فما لزومهم إذن، وكيف نأتمنهم على رعاية مصالح الشعب؟ ــ لنا غدا بإذن الله كلام آخر في الموضوع

نقلا عن صحيفة الشرق القطرية **

التعليقات مغلقة.